كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:
إرث لبنان الأخضر في خطر وأحراجه تواجه واحدة من أسوأ الكوارث البيئية، وكأن ما يصيبها بفعل الإهمال الداخلي والاعتداءات الخارجية لا يكفي حتى تتواطأ الطبيعة ضدها لتجفف شريان الحياة الذي يغذيها. جفاف، لهيب وعطش ثلاثية قاتلة تخنق الأشجار وتنشر اليباس في أوراقها. أحراج لطالما اكتست برداء أخضر دائم تبدو اليوم بنيّة متجهّمة تثير المخاوف. فهل تصمد أحراجنا في وجه تعنت الطبيعة إذا استمر انحباس المطر أم تستسلم للتصحّر في وقت باتت فيه الصحراء من حولنا تزهر خضرة وألوانًا؟
ظاهرة يباس الأحراج تتفشى بسرعة مقلقة، من أحراج حريصا إلى غابات عكار وسفوح الشوف وعاليه وسواها، تتكشف هشاشة النظام البيئي أمام تغيّر المناخ وغياب الإدارة الفاعلة للموارد المائية. لم يعد مشهد اليباس مجرد إنذار بيئي عابر، بل خطر حقيقي يهدّد ما تبقى من الغطاء الأخضر الذي يميز لبنان عن محيطه. هل هو العطش وحده الذي يفتك بالأحراج أم مرض غامض ينتشر بين الأشجار على غرار جائحة كورونا؟ ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف يمكن للبنان مواجهة ظاهرة يباس أحراجه؟ وهل الحلول ما زالت ممكنة؟
وزارة الزراعة تراقب بحذر
منذ الثلاثين من آب تنبّهت وزارة الزراعة إلى الأمر وأصدرت بيانًا هدف إلى طمأنة المواطنين أوضحت فيه أسباب اليباس الحاصل في الغابات، معترفة أنه يباس غير معهود أثار القلق، لكنه غير مرتبط بأي حشرات أو أمراض تصيب الأشجار، بل يعود بشكل مباشر إلى الظروف المناخية القاسية التي شهدها لبنان خلال العام الحالي. وأضافت الوزارة في بيانها أن موجات الجفاف الحاد وموجات الحر المتكررة التي ضربت مختلف المناطق أدت إلى شيخوخة مبكرة وتساقط أوراق الأشجار خصوصًا في التربة الفقيرة بالمياه والتي تعجز عن تخزين الرطوبة اللازمة لاستمرار نمو الأوراق. وقد بدأت هذه الظاهرة في المناطق الساحلية والوسطى نتيجة الارتفاع الكبير في درجات الحرارة ثم امتدت تدريجيًا إلى المناطق الجبلية والمرتفعات مع تفاقم موجات الحر في ذروة الصيف. وإذ طمأنت الوزارة المواطنين إلى أن هذه الظاهرة ذات طابع مناخي موسمي لا يهدد حياة الأشجار، أملت بأن يأتي موسم الأمطار باكرًا هذا العام ليخفف من حدة اليباس ويعيد تجديد الغطاء الأخضر في مختلف المناطق .
لكن ما أملت به وزارة الزراعة ومعها لبنان أجمع، لم يحصل حتى الآن والأمطار تأخرت. وقد انقضى الأسبوع الأول من تشرين الثاني من دون أية شتوة تبل ريق الأرض وشجرها. الوزارة النشطة تتابع بلا شك تطورات الوضع لكن أمام عناد الطبيعة تكاد تقف عاجزة.
“هل يمكن إيقاف الزلزال؟” سؤال يطرحه الخبير الزراعي ومدير المشاتل في جمعية الثروة الحرجية والتنمية فاروق سلمان الذي يؤكد بقلق أننا وسط كارثة طبيعية هي الجفاف الناجم عن التغيّر المناخي. صحيح أن المنطقة كانت تشهد فترات جفاف على مر العصور ولسنوات متتالية حتى أنها ذكرت في العهد القديم أيام النبي يوسف وولدت صلاة الاستسقاء عند مختلف الأديان، لكن هذا النوع الحاد من الجفاف لم يشهده لبنان في العصر الحديث.
الانتظار القلق
موجة اليباس التي تظهر اليوم في أحراج لبنان تصيب في نسبة عالية منها الأشجار ذات الأوراق العريضة من فصيلة السنديان مثل الملول والزعرور والقتلب والبلوط. أما السبب الرئيسي لها فهو الجفاف إذ إن شتاء 2025 شهد تساقط ربع كمية المطر المعهودة وذلك على فترات متباعدة بحيث كانت مياه الأمطار تتبخر ولا تصل إلى الجذور العميقة للشجر. وفي قاموس الطبيعة عادة ما تدخل الأشجار البعلية في مرحلة سبات يمتد من 15 تموز إلى 15 أيلول لا تورق فيها ولا تنتج أغصانًا جديدة وذلك لتحافظ على المياه العميقة وكأنها تقوم بعملية تقنين ذاتية حتى تمر فترة الجفاف. هذه السنة مياه الأمطار كانت قليلة وحرارة آب المرتفعة جعلت المياه تتبخر أكثر وحين تتعرض الشجرة لحرارة عالية تزيد عملية تبخر المياه من الأغصان وبعد أن تستنفد المياه الضحلة الموجودة في التربة تبدأ الأوراق في اليباس.
عمومًا تنتظر الأشجار منتصف أيلول حتى تخرج من سباتها بحيث يترافق ذلك عادة مع أمطار ورطوبة في الجو وهو الأمر الذي لم يحدث هذا العام. ولكن إذا شهدنا أمطارًا في شهر تشرين الثاني الحالي كما هو متوقع يمكن أن نشهد تحسنًا في الوضع. لكن للأسف يقول سلمان لا يمكننا أن نجزم منذ اليوم إذا كان اليباس قد طال الجذوع أم اقتصر على الأغصان. ففي الحالة الثانية يمكن للشجرة أن تستعيد اخضرارها بعد موسم الشتاء القادم أما إذا طال الجذوع فذلك يعني خسارة الشجرة وموتها.
انتظار صعب بدأ يستدعي دعوات إلى إقامة صلوات الاستسقاء علّ الله يستجيب وتتحنن الطبيعة على من أساء إليها فتفرج عن أمطارها المحتبسة. حتى الآن الوضع لا يزال مقلقًا جدًا حيث إن اليباس بدأ يطال حتى المرتفعات العالية الأمر الذي يعني انتشار جفاف التربة وصولًا إلى الأماكن الغنية بالمياه التي يفترض أن تختزن الرطوبة.
حرج حاريصا يتشح بالبني
يلاحظ البيئيون أن الجبال المكشوفة على يمين الشمس هي الأكثر عرضة لليباس حيث أنواع التربة لا تخزن مياهًا كثيرة مثلها مثل الأرض الصخرية والأرض المنحدرة التي تعجز عن تخزين المياه في حين يقل اليباس في الأرض المستوية. وانتشار اليباس في بقع أكثر من سواها وبنسب متفاوتة يعود إلى عنصر واحد هو وجود مخزون مياه في الأرض على شكل نبع أو بئر أو ممر مياه وكلما كان المخزون أكبر كلما استطاعت الأشجار التغذي منه والحفاظ على اخضرارها.
والمؤسف المفاجئ في الأمر امتداد اليباس إلى أحراج حريصا وبكركي وهي عادة مناطق عالية الكثافة بالأشجار الخضراء من فصيلة السنديان وهي عرضة لرطوبة قوية تأتيها من البحر. لكن توقف الأمطار منذ شهر شباط وموجة الحر اللاهبة التي شهدها لبنان في شهر آب بعد ستة أشهر على توقف المطر جففت التربة، ولم تعد تكفي كمية الرطوبة في الهواء للحفاظ على اخضرار الأشجار. فالرطوبة في العادة لا تكفي وحدها لإحياء الأشجار بل تساند المياه الجوفية التي تغذي الجذور العميقة ومع فراغ هذه المياه وقعت الكارثة.
من جهته يؤكد وائل مصطفى رئيس جمعية الثروة الحرجية والتنمية، الناشطة جدًا في مجال التحريج والحفاظ على الأحراج أن ظاهرة اليباس غريبة لكن رغم ذلك لا يبدو أنها نتيجة مرض يصيب الأشجار أو أقله لم يتم إجراء الدراسات المعمقة التي تثبت وجود مرض. صحيح أن دودة الصندل التي تصيب الصنوبر قد تكاثرت بشكل غير مسبوق نتيجة الحر وظهرت على ارتفاعات غير معهودة تفوق 300 متر، لكنها في الواقع لا يمكن أن تتسبب في موت أشجار الصنوبر، بل تظهر في فترة محددة قبل شهر أيار وتسبب يباس الأوراق ثم تستعيد الأوراق اخضرارها بدءًا من أيار حزيران. أما الأشجار الأخرى من فصيلة السنديان التي أصابها الجفاف فيمكن أن تستعيد اخضرارها في الربيع المقبل إن لم يكن الجفاف قد أصاب الجذوع واكتفى بالأوراق لكن حينها ستفرخ ضعيفة لأنها تخلت عن كمية كبيرة من أوراقها. وهنا يقول خبير الأحراش أن ثمة تقنيات تشحيل معروفة يجب تنفيذها لإعادة النشاط إلى الشجرة في حال صمد جذعها. لكن من له القدرة المالية والبشرية حاليًا في لبنان على تشحيل مساحات واسعة من الأحراش؟ حتى التشحيل لدراسة وضع الأشجار ومدى ما أصابها من ضرر غير ممكن وجل ما يمكن القيام به أخذ عينات من بعض الأحراج لإجراء الفحوصات والدراسات عليها. كل الجمعيات البيئية والوزارات تقرع ناقوس الخطر ولكن في غياب التمويل يبقى مجرد صدى يتردد في الفراغ.
في انتظار المطر
الكل يأمل بهطول الأمطار قريبًا. لكن في الانتظار، تبقى المخاطر كثيرة. فخطر الحرائق لا يزال قائمًا خاصة مع انتشار اليباس في الأشجار وبقاء درجات الحرارة مرتفعة. من جهة أخرى الأشجار التي تخلت عن أوراقها أو درع وقايتها الأول لتصمد في وجه الجفاف تصبح ضعيفة وعرضة للمزيد من الأمراض والحشرات المؤذية التي تفتك بها في العادة وغير قادرة على مقاومتها ما قد يسبب في تفاقم الضرر وصولًا إلى موت الأشجار، كما يحصل مع دودة الحفر التي تصيب الصنوبر وتحفر في الجذع مسببة انقطاع التواصل بين الجذع والأغصان وبالتالي موت الشجرة.
تقف وزارة الزراعة عاجزة رغم حالة المراقبة والاستعداد، فهل بإمكانها أن تفرض المطر على الطبيعة؟ ري الأحراج ليس بالأمر الممكن وكلفته عالية جدًا ويحتاج إلى طائرات وكلنا يعرف حالة طائرات الإطفاء التي تلقتها الدولة اللبنانية في أحد الأيام وأحيلت إلى التقاعد المبكر، كذلك يحتاج إلى الاستعانة بالجيش اللبناني. وكلنا ندرك ثقل المهمات الملقاة على كاهل هذا الجيش. الحل لم يعد في يد البشر ومصير أحراجنا تقرره الطبيعة وحدها. فهل تتكافل مع سواها ضدنا أم تكون أكثر رحمة علينا من بعض منا؟




