كتب طوني كرم في “نداء الوطن”:
سلك ملف استرداد “صندوق أسود النيترات” إيغور غريتشوشكين، الموقوف في بلغاريا، طريقه عبر القنوات الدبلوماسية، بعد أن أنجزت النيابة العامة التمييزية طلب الاسترداد مدعّمًا بالأدلة والمستندات القانونية.
الملف، الذي أعدّه القضاء استنادًا إلى مذكرة التوقيف الغيابية الصادرة بحقه، تضمن توصيفًا قانونيًا دقيقًا للجرم المنسوب إلى غريتشوشكين في ملف تفجير مرفأ بيروت، والمواد القانونية التي سيحاكم على أساسها، بالإضافة إلى العقوبات المحتملة ومجموعة من الوثائق التي تُثبِت صلة المطلوب بالسفينة “روسوس” التي نقلت مادة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وتسببت بالانفجار الكارثي في 4 آب 2020.
وفي السياق، توقفت مصادر قضائية بحذر عند استعجال وزارة العدل وإحالتها ملف الاسترداد إلى وزارة الخارجية، وأوضحت لـ “نداء الوطن” أن رفع نسخة رسمية منه إلى السلطات البلغارية وفق الأصول الدبلوماسية المعتمدة بين البلدين، كان من المستحسن أن يترافق مع تذليل الثغرات أو تقديم التطمينات التي تضمنتها بوضوح اتفاقية الاسترداد المبرمة بين البلدين.
اتفاقية ثنائية… لكنها مشروطة
وأمام وضوح المسار القضائي والدبلوماسي، يواجه لبنان تحديات قانونية حقيقية مستندة إلى اتفاقية الاسترداد الثنائية الموقّعة بينه وبين بلغاريا بتاريخ 20 آذار 2001، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 12 كانون الأول 2002.
فالاتفاقية، ورغم أنها تلزم كل فريق متعاقد بتسليم الأشخاص المطلوبين على أراضيه للملاحقة أو لتنفيذ الأحكام، تتضمن شروطًا صارمة وأسبابًا موجبة لرفض طلب الاسترداد، لا سيما في حالتين اثنتين تنطبقان على غريتشوشكين، ما لم تجد السلطات البلغارية نفسها غير مقيدة بهما على اعتبار أن لبنان يطالب باسترداد موقوف على أراضيها ولكنه ليس مواطنًا بلغاريًا.
“المجلس العدلي” و عقوبة الإعدام!
وأبرز تلك الشروط التي تخوّل بلغاريا التنصل من التجاوب مع طلب الاسترداد، ما إذا كان المطلوب سيُحاكم أمام محكمة استثنائية، وإذا كان الفعل المطلوب من أجله الاسترداد معاقبًا عليه بالإعدام. لكن الاتفاقية نفسها تركت الباب مفتوحًا للتعاون، واشترطت تقديم الدولة ضمانات كافية بأن عقوبة الإعدام لن تُنفذ أو لن تُفرض أصلًا، كما التأكيد على أن ينال المتهم محاكمة عادلة.
مصادر قضائية أكّدت لـ “نداء الوطن” أن الضمانات المطلوبة يعود تقديمها للسلطة السياسية وليس السلطة القضائية. ووفق معلومات خاصة، فإن وزارة العدل تنتظر تجاوب بلغاريا مع طلب لبنان، على أن تنكب في موازاة ذلك على دراسة كافة الإجراءات الممكن القيام بها من أجل ضمان أفضل سبل التعاون القضائي بين لبنان وبلغاريا.
ويتفرّد المجلس العدلي، يُدرجه البعض في خانة المحاكم الاستثنائية، بخصوصيات قانونية منها أن أحكامه نهائية وغير قابلة للطعن أو الاستئناف، ما يشكل بحد ذاته مخالفة لمبدأ المحاكمة العادلة أمام قضاء عادي، كما تنص عليه الاتفاقية.
كما أن تغيير مسار المحاكمة في قضية تفجير المرفأ عن المجلس العدلي “شبه مستحيل”، على اعتبار أن الملف أحيل إلى المجلس بقرار من الحكومة، وأن استصدار مذكرة توقيف غيابية بحق غريتشوشكين وتعميمها عبر الإنتربول، نابع عن عمل المحقق العدلي المعيّن من الحكومة وأن التحقيقات والمدعى عليهم سيحالون للمحاكمة حكمًا أمام المجلس العدلي.
بالإضافة إلى ذلك، تنص الاتفاقية على أنه في حال كان الجرم المطلوب بشأنه الاسترداد يُعاقب عليه بالإعدام بموجب قانون الدولة طالبة الاسترداد، لا يُنفذ الاسترداد إلا إذا قدمت تلك الدولة ضمانات مقبولة لدى الدولة المطلوب إليها بعدم تنفيذ هذه العقوبة.
وبما أن الجرائم المدعى بها على المتورطين في ملف تفجير المرفأ وتسببت بوفاة جماعية قد تُفضي، إلى طلب إنزال عقوبة الإعدام بأي من المتهمين، فإن السلطات البلغارية قد تُطالب لبنان بتقديم تعهدات رسمية بأن غريتشوشكين لن يكون عرضة للإعدام، لا بالحكم ولا بالتنفيذ.
حتميّة تقديم الضمانات!
رغم هذا الإطار القانوني الصارم، أظهرت بلغاريا انفتاحًا مبدئيًا على التعاون، حيث أبدى سفيرها في بيروت خلال اجتماعه بوزير العدل تفهّمه لسعي لبنان لأفضل سبل التعاون القضائي بين البلدين، مؤكدًا أنه سينقل الموقف إلى سلطات بلاده. لكن هذه الإيجابية تبقى مشروطة برأي الجهات القضائية البلغارية، التي ستُقيّم الملف بموجب مندرجات الاتفاقية، ولا سيما ما يتعلق بالمحكمة التي ستنظر في الملف، ونوع العقوبة المحتملة.
وفي حال رفضت بلغاريا الطلب لأحد الأسباب السابقة، تمنح الاتفاقية لبنان حق طلب مباشرة السلطات البلغارية نفسها الإجراءات الجزائية بحق غريتشوشكين إن رغبت بذلك، استنادًا إلى الوقائع الموجودة في الملف اللبناني، وتأمين ضمان استجوابه قبل تسليمه إلى إحدى الدول التي يحمل جنسيتها، أو إطلاق سراحه.
حتى تاريخه، الملف في عهدة المسار الدبلوماسي بين البلدين، والاتصالات التي يتوّجب على لبنان القيام بها دوليًا؛ وتبيان ما إذا كان هناك إرادة دولية لكشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت، أو أن تقاطع المصالح الدولية بعد اتضاح عدم التعاون سابقًا وتسليم صور الأقمار الاصطناعية وعدم التجاوب الجدّي مع الاستنابات التي رفعها المحقق العدلي لعدد من الدولة المعنية، سيتكرر ويتم التماسه مجددًا مع بلغاريا.
يبقى أن نجاح استرداد غريتشوشكين وفق المعنيين، سيتوقف بشكل أساسي على “وعي” وحنكة المسؤولين واستدراك الإسراع في رفع طلب الاسترداد إلى بلغاريا، من خلال تقديم ضمانات كافية ومقنعة بأن المحاكمة ستكون أمام هيئة قضائية عادلة، وأن عقوبة الإعدام لن تطبّق بأي حال من الأحوال. وإلا فإن الاتفاقية نفسها قد تتحول من وسيلة لتسليم المطلوب إلى أداة قانونية لعرقلة ذلك.