كتبت ناديا غصوب في “نداء الوطن”:
في تطوّر يُعتبر الأبرز منذ سنوات، شرعت الدولة اللبنانية في عملية منظمة لتسلّم الأسلحة الثقيلة والمتوسّطة من المخيّمات الفلسطينية، خطوة عكست تقاطع مصالح أمنية لبنانية وفلسطينية وإقليمية، لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب أمام تساؤلات جدّية حول مستقبل السلاح الفردي وكلّ ملف “السلاح خارج الدولة”.
وقد شهد لبنان خلال الأسابيع الأخيرة تحرّكات متسارعة في هذا المجال، وهو ملف شائك يمتدّ لعقود ظلّ خلالها عالقًا بين الحسابات الأمنية والسياسية اللبنانية والفلسطينية والإقليمية. وفي إطار استكمال هذه العملية، تسلّم الجيش اللبناني صباح السبت الفائت ثلاث شاحنات محمّلة بالأسلحة من مخيّم “البداوي” في شمال لبنان، إضافة إلى خمس شاحنات أخرى من مخيم “عين الحلوة” في الجنوب. هذه الخطوة جاءت ضمن تفاهمات أمنية وسياسية مع حركة “فتح” وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما كانت المرحلة الأولى قد انطلقت في 21 آب من مخيّم “برج البراجنة” في بيروت، لتتبعها دفعات أخرى من مخيّمات “الرشيدية” و “البص” و “البرج الشمالي” في صور جنوبي البلاد.
مدير العلاقات العامة في قوات الأمن الوطني الفلسطيني، عبد الهادي الأسدي، أكّد أن العملية تشمل تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسّطة التي تعود للفصائل الفلسطينية، مشدّدًا على أن المسار يعكس تعاونًا جديًا مع الدولة اللبنانية. ومن جانبه، أوضح رئيس لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، السفير رامز دمشقية، أن عملية التسليم مستمرّة وأن الحوار جارٍ مع باقي الفصائل من أجل استكمال ما تبقى، مؤكّدًا أن المسار ليس ظرفيًا بل هو جزء من خطة أوسع تهدف لإنهاء مظاهر السلاح خارج سلطة الدولة.
هذه التطوّرات، على أهميّتها، أثارت نقاشات واسعة في الأوساط اللبنانية. فهناك من يعتبرها خطوة تعزز سلطة الدولة وتكرّس الجيش كمرجعية شرعية وحيدة لحمل السلاح، ما يسهم في حماية الداخل من مواجهات مسلّحة واسعة. في المقابل، يرى آخرون أنها تصبّ في مصلحة أطراف خارجية، خصوصًا إسرائيل، التي يعنيها الاطمئنان إلى خلوّ المخيّمات من ترسانة عسكرية قد تُستخدم ضدّها، بينما يبقى الداخل اللبناني عرضة لتهديد السلاح الفردي المنتشر بكثافة في المخيّمات والشوارع.
التجارب السابقة أثبتت أن السلاح الفردي وحده كفيل بإشعال نزاعات أهلية وصراعات داخلية، كما جرى مرارًا في مخيّم “عين الحلوة” أو في محطات أخرى من التاريخ اللبناني. ومن هنا، فإن التركيز على نزع السلاح الثقيل والمتوسط، رغم رمزيّته وأهميّته السياسية، قد لا يحقق الاستقرار الحقيقي ما لم يُرفق بخطة شاملة لضبط السلاح الفردي والحدّ من انتشاره.
متابعون لهذا الملف يشيرون إلى أن هذه الخطوة تأتي أيضًا في إطار ضغوط دولية وإقليمية على لبنان، إذ تسعى أطراف عربية ودولية إلى تحييد المخيّمات الفلسطينية عن أي توترات إقليمية، لا سيّما في ظلّ التصعيد المتواصل بين “حزب اللّه” وإسرائيل في الجنوب. فيما يرى آخرون أن السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس حريصة على إظهار صورة التعاون مع الدولة اللبنانية كوسيلة لتثبيت شرعيتها بمواجهة تنامي نفوذ حركات أخرى داخل المخيّمات مثل “حماس” و “الجهاد الإسلامي”.
أمّا على المستوى اللبناني الداخلي، فتطرح العملية أسئلة عن ازدواجية المعايير، إذ يعتبر قسم من اللبنانيين أن الدولة تتشدّد في ملف سلاح المخيّمات بينما تعتمد مرونة في ملفات السلاح خارجها، سواء بأيدي الأحزاب أو العشائر أو القوى المحلّية، ما يعزز لدى الفصائل الفلسطينية شعورًا بالاستهداف الانتقائي. ويرى محللون أن معالجة ملف السلاح الفلسطيني قد تكون مقدّمة لطرح ملف السلاح غير الشرعي في لبنان ككلّ، بما فيه سلاح “حزب اللّه”، وهو النقاش الأكثر حساسية داخليًا.
وفي موازاة ذلك، فإن رفض بعض الفصائل مثل “حماس” و “الجهاد الإسلامي” تسليم سلاحها في بعض المخيّمات يكرّس انقسامًا داخليًا واضحًا بين الفلسطيني المتشدّد الذي يرى في الاحتفاظ بالسلاح وسيلة للضغط والسيادة، والفلسطيني المعتدل التابع لحركة “فتح” ومنظمة “التحرير” الذي يدعو إلى تسليم السلاح والاحتكام للسلطة المدنية والأمنية. هذا الرفض يعزز رواية المتشدّدين ويضعف موقف الفصائل الملتزمة بالاتفاقات، ويزيد في الوقت نفسه مخاوف انتقال النزاع إلى داخل المخيّمات أو إلى المناطق اللبنانية المجاورة، الأمر الذي يفرض معالجة سريعة من جانب الدولة اللبنانية عبر حوار دقيق لكن حازم، مع تحديد مهل زمنية واضحة لتسليم السلاح ووضع آليات مراقبة شفافة تقي من أيّ تفلّت أمنيّ أو استغلال للفراغ السياسي من قبل جماعات راديكالية.
وفي المحصّلة، فإن تسليم الأسلحة من المخيّمات الفلسطينية إلى الجيش اللبناني يُعدّ خطوة مهمّة على صعيد الرمزية السياسية وإظهار التعاون الفلسطيني مع مؤسّسات الدولة، لكنه يظلّ إجراء غير مكتمل ما لم تواكبه خطوات عملية لضبط السلاح الفردي واعتماد مقاربة وطنية شاملة قادرة على بناء الثقة بين اللبنانيين أنفسهم من جهة، وبين الفلسطينيين والدولة اللبنانية من جهة أخرى. وحدها رؤية استراتيجية متكاملة تعالج جذور الأزمة الأمنية وتضع حدًّا لثقافة السلاح كضمانة للوجود، يمكن أن تفتح الباب أمام استقرار فعليّ، وتحوّل العملية إلى مكسب حقيقيّ للداخل اللبناني لا مجرّد رسالة طمأنة للخارج.