كتب نايف عازار في “نداء الوطن”:
يقترع العراقيون اليوم لاختيار أعضاء برلمانهم الجديد، في استحقاق ديمقراطي هو الأول في “بلاد الرافدين” بعد هجمات 7 أكتوبر 2023. وبما أن حركة “حماس” هي أحد أذرع إيران في المنطقة، وتسبّبت بإشعال فتيل الحروب الإسرائيلية على هذه الأذرع في الإقليم، كانت النتيجة أن أُعطبت هذه الأذرع في معظمها، باستثناء تلك المرابطة في العراق.
نجحت حكومة محمد شياع السوداني المنبثقة من قوى “الإطار التنسيقي”، التي تدور في فلك الجمهورية الإسلامية، في تحييد العراق عن أتون النار الإسرائيلية حتى الآن، من خلال ضبط الميليشيات الشيعية المسلحة، والنظامية منها كـ “الحشد الشعبي”، لإدراكها أن موازين القوى مختلّة تمامًا، وأن آلة الحرب الإسرائيلية المتفوّقة تكنولوجيًا، قد تترك البلاد، إن تجاسرت إحدى الميليشيات على فتح جبهة واسعة النطاق مع الدولة العبرية، “أثرًا بعد عين”، كما فعلت في قطاع غزة وجنوب لبنان، وبعض المناطق السورية واليمنية.
وهنا تطرح تساؤلات عن حال حلفاء إيران في العراق وحظوظهم الانتخابية، وعن كيفية تعاطي صناع القرار في طهران مع الانتخابات التشريعية العراقية، في ظل التبدّلات الجذرية والحروب التي عصفت بالمنطقة بعد عملية “طوفان الأقصى”.
يعتبر نظام الملالي أن العراق لا يزال ساحة نفوذه السليمة والنموذجية، ضمن ما كان يسمى بـ “الهلال الشيعي”، وأن التقهقر العسكري لحلفائه في المنطقة يجعل الانتخابات العراقية إحدى ساحات المواجهة الرئيسية، وإحدى الأوراق التفاوضية المهمة مع بلاد “العم سام”، ويمكن من خلالها أن تظهر طهران قوة وكلائها الشيعة وحضورهم في العراق، وأنها لم تخسر كامل نفوذها الإقليمي، خصوصًا في بلد يُعدّ متنفسها الجيوسياسي والحيوي الأهم.
بطبيعة الحال لم تألُ طهران ولن تألو جهدًا في دعم حلفائها ومرشحيها، في محاولة منها للحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ سياسي وعسكري في العراق، وهي تجد نفسها مرتاحة لاستمرار “حرد” السيد مقتدى الصدر السياسي، واختياره مقاطعة الانتخابات، وبقائه بعيدًا من الحلبة البرلمانية، وهو لطالما وقف سدًا منيعًا ضد تعاظم النفوذ الإيراني في بلاده، ورفض انزلاقها إلى أي صراع إسرائيلي – إيراني. وتظهِر الدورة الانتخابية الراهنة أن الكباش الحقيقي ليس فقط شيعيًا – سنيًا كما كان سائدًا، بل أضحى شيعيًا – شيعيًا، في ظل مقاطعة الصدر من جهة، والمناكفات وشدّ الحبال بين أفرقاء “الإطار التنسيقي” نفسه من جهة ثانية.
وهنا يعتبر المراقبون أن مقتل قائد “فيلق القدس” السابق قاسم سليماني عام 2020، ترك فراغًا مدوّيًا في النفوذ الإيراني داخل العراق، إذ بعد اغتياله بانت صعوبة جليّة في الحفاظ على تماسك الكتلة الشيعية، فلم يقتصر الأمر على عزوف الصدر وتياره فقط، بل طافت على السطح تباينات شديدة في صفوف “الإطار” نفسه، ولم تفلح زيارة قائد “فيلق القدس” الحالي إسماعيل قاآني إلى بغداد في تموز المنصرم، في ردم الهوة الآخذة في الاتساع بين مكونات البيت الشيعي الواحد.
في المقابل، يمكن لإيران أن تَظهر من خلال الانتخابات العراقية، بمَظهر الحريصة على إثبات حسن نيتها هناك، وأن تدّعي عدم تدخلها في الشؤون العراقية، وأنها تحترم سيادة جارتها، وأنها منكبّة في هذه المرحلة على التعامل مع وضعها الداخلي المهتز، وعلى ترميم بنيتها العسكرية والدفاعية بعد حرب الـ 12 يومًا، ومنشغلة بمعالجة شجونها النووية التفاوضية المتعثرة، مع إعادة فرض العقوبات الأممية عليها.
في المحصلة، يرى الخبراء أن طهران التي أمسكت منذ سنين بـ “مفاتيح” في العراق، أكان عبر أحزاب سياسية شيعية تدين لها بالولاء المطلق، أو عبر فصائل مسلحة تأتمر بإمرتها، وتكن عداءً شديدًا لواشنطن وتل أبيب، والتي مُنيت بخسائر عسكرية واستراتيجية ومعنوية كبيرة في حرب حزيران الفائت، تسعى جاهدة راهنًا للإبقاء على مكتسباتها السياسية والعسكرية، من خلال الاحتفاظ بكتلة نيابية وازنة تدور في فلكها، في بلد شكل مسرحًا رئيسيًا لتمدد نفوذها الإقليمي، بعد الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003. وبالتالي، فإن نظام الملالي سيستميت لعدم خسارة “بلاد الرافدين”، التي يعتبرها مجاله الحيوي، وأحد أعمدة أمنه القومي. وستبقى إيران تتمتع بنفوذ وازن طالما أمسك حلفاؤها بالقرار السياسي في العراق. لهذا، تعتبر انتخابات اليوم بمثابة “أمّ المعارك” السياسية التي تخوض إيران غمارها، للإبقاء على نفوذها في بغداد، أملًا في إعطاء “جرعة أكسجين” لنظام يترنح في طهران، وبات آيلًا إلى السقوط أكثر من أي وقت مضى.




