كتب زياد سامي عيتاني في “اللواء”:
مع تسرّب المعلومات عن اتفاق سوري – إسرائيلي برعاية دولية، ارتجّ المشهد الإقليمي بأسره، وخصوصاً في لبنان. فبلد الأرز، الذي لطالما كان مرآة لصراعات المشرق، يجد نفسه اليوم أمام استحقاق جديد: كيف سيتعامل مع تسوية كبرى تمسّ جواره المباشر وتعيد رسم التوازنات بين دمشق وتل أبيب؟
التاريخ علّم اللبنانيين أن أي تحوّلا في العلاقة بين سوريا وإسرائيل يترك بصماته المباشرة على بيروت، سواء على مستوى الأمن أو السياسة أو الاقتصاد. ولذا، فإن السؤال المطروح ليس فقط حول طبيعة الاتفاق، بل حول انعكاساته الفعلية على لبنان، الذي يواجه أصلاً انهياراً داخلياً غير مسبوق.
- لبنان كساحة صراع بديلة
على مدى عقود، لعب لبنان دور «الساحة البديلة» كلما جُمّدت المواجهة السورية – الإسرائيلية. بعد حرب تشرين 1973، وقّعت دمشق وتل أبيب اتفاق فصل القوات في 1974، وبقيت جبهة الجولان هادئة نسبياً، فيما تحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة مفتوحة للمقاومة والردع.
وفي الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، تدخّلت سوريا مباشرة واصطدمت مع إسرائيل عدة مرات، أبرزها اجتياح 1982 الذي وصل إلى بيروت. ومع اتفاق الطائف وما تلاه، تكرّست الوصاية السورية حتى 2005، بينما واصل حزب الله بناء معادلة «المقاومة» التي توّجت بانسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000.
حرب تموز 2006 أكدت أن لبنان بقي ساحة المواجهة الأساسية، بينما ظل الجولان السوري بعيداً عن النار. هذه الخلفية التاريخية توضح أن أي اتفاقا جديدا بين دمشق وتل أبيب سيعني بالضرورة إعادة توزيع للأدوار، مما يضع لبنان مرة أخرى في قلب الحسابات الإقليمية.
- حزب الله تحت المجهر
منذ نشأته، ارتبط حزب الله بعمق استراتيجي سوري، سواء عبر الأرض كممر للسلاح والدعم اللوجستي، أو عبر المظلة السياسية التي منحتها دمشق للحزب.
اليوم، ومع تسوية سورية – إسرائيلية، يبرز سؤال جوهري: كيف ستتعامل إسرائيل مع استمرار وجود حزب الله المسلّح جنوب لبنان في ظل تفاهمها مع سوريا؟
يرى بعض المراقبين أن إسرائيل قد تسعى لعزل حزب الله وتجريده من الغطاء السوري، لتكريس معادلة جديدة تجعل لبنان وحيداً في مواجهة الضغوط، ما يرفع مستوى التعقيد أمام الدولة اللبنانية التي تعاني أصلاً من انهيار داخلي غير مسبوق.
- اهتزاز موازين القوى الداخلية
لبنان الممزّق بين محاور متناقضة سيشهد ارتدادات داخلية عميقة:
– الفريق المؤيد لما كان يعرف بمحور المقاومة سيجد نفسه في موقف حرج إذا تبيّن أن دمشق، حليفه التاريخي، اختارت مسار التسوية مع إسرائيل.
– الفريق السيادي سيحاول استثمار الاتفاق لإضعاف خصومه السياسيين والترويج لضرورة إدماج لبنان في مسار التطبيع الإقليمي.
الدولة الرسمية ستُحاصر بضغوط متزايدة لتسريع ترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل، على قاعدة أن سوريا سبقت لبنان إلى التفاهم.
هذا الاهتزاز يهدّد بتعميق الانقسام الداخلي، ما لم يُترجم بحوار لبناني جامع يعيد صياغة الأولويات الوطنية.
- الضغط الإسرائيلي لجرّ لبنان نحو اتفاق
إسرائيل لن تكتفي بمتابعة المشهد من بعيد، فهي تعتبر أن نجاحها في تحييد دمشق يفتح الطريق لطرح السؤال: لماذا يبقى لبنان «الاستثناء» الرافض للسلام؟ لذلك، فهي لن تتوانى عن إستخدام كل أدوات الضغط المتعددة، منها:
– الحدود: من الخط الأزرق في الجنوب إلى ثروات الغاز في البحر، سيُستخدم ملف الترسيم كورقة ابتزاز.
– المقاومة: استمرار حزب الله مسلّحاً سيُصوَّر كعقبة أمام الاستقرار، ما يعرّض لبنان لعقوبات وضغوط دولية إضافية.
– العصا والجزرة: المجتمع الدولي قد يلوّح بتجميد المساعدات وربطها بالمسار السياسي، مقابل وعود بفتح أبواب الدعم إذا التحق لبنان بالتسوية.
- اللاجئون والاقتصاد
انعكاسات الاتفاق تمتد أيضاً إلى الاقتصاد واللاجئين:
– ملف اللاجئين السوريين قد يُربط بعودة مشروطة ضمن ترتيبات إقليمية مرتبطة بالسلام، ما يعني إطالة أمد الأزمة اللبنانية.
– التجارة والتهريب عبر الحدود قد تتأثر إذا شدّدت دمشق الرقابة، وهو ما قد يحرم لبنان من «شريان غير شرعي» اعتمدت عليه بعض المناطق.
– المساعدات الدولية قد تتدفّق إلى سوريا «المتصالحة»، فيما يبقى لبنان خارج دائرة الاهتمام إن لم يواكب التسويات.
السيناريوهات المحتملة على الصعيد اللبناني:
- الانخراط التدريجي: لبنان يسير في مسار مشابه لاتفاق الترسيم البحري 2022، حيث تُجزّأ الملفات ويُقدّم التطبيع الاقتصادي – الأمني كإجراء تقني لا سياسي.
- التصعيد الإسرائيلي: تلجأ تل أبيب إلى الضغط عبر الخروقات الأمنية والاعتداءات المحدودة لإظهار أن «لبنان وحده سبب عدم الاستقرار».
- الصمود والمماطلة: يعتمد لبنان سياسة كسب الوقت، رافضاً الدخول في اتفاق كامل لكنه منفتح على وساطات دولية لتخفيف الضغط.
الخلاصة، الاتفاق السوري – الإسرائيلي لا يقف عند حدود الجولان، بل يرتدّ على لبنان بوصفه الحلقة الأضعف في معادلة المشرق. إسرائيل، التي أزاحت عبء الجبهة السورية، ستعتبر أن الوقت حان لإغلاق ملف «الاستثناء اللبناني».
لكن لبنان، المحكوم بأزماته الداخلية وانقساماته البنيوية، يجد نفسه أمام معادلة شبه مستحيلة، الأمر الذي يطرح السؤال: كيف يتفادى الضغوط الهائلة من دون أن ينجرّ إلى تسوية غير متكافئة؟ إنها لحظة شديدة الحساسية، حيث يتقاطع التاريخ والجغرافيا والسياسة، ويعود السؤال الأزلي: هل سينجح لبنان في حماية موقعه وسط تسويات الآخرين، أم سيجد نفسه مجدّداً ساحة بديلة لحروب لم يخترها؟
أخبار متعلقة :