تخيل أن الذكاء الاصطناعي يتغذّى على مؤلفات نجيب محفوظ، من “الثلاثية” إلى “أولاد حارتنا”، ليُنتج نصوصًا جديدة تنبض بالإيقاع نفسه، وتحمل الحسّ الاجتماعي والعمق الفلسفي الذي ميّز أدبه. في الظاهر، تبدو الفكرة مدهشة: أن يُبعث صوت محفوظ من جديد ليحكي عنّا الآن، وكأن الزمن لم يمضِ.
لكن خلف هذا الإغراء الفني، تكمن أسئلة فلسفية وأخلاقية معقدة. هل يحق لآلة أن تتحدث باسم محفوظ؟ وإذا كتب الذكاء الاصطناعي نصًا يُشبه أسلوبه، فهل يُعد ذلك “استمرارًا لتراثه” أم “استيلاءً على هويته الأدبية”؟ والأهم من ذلك، إذا تجاوزنا ذلك الجانب الفلسفي والأخلاقي للمساءلة، هل يمكن حقًا من الناحية العملية تحقيق ذلك في الوقت الحالي في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة؟ يبدو الأمر كذلك.
الذكاء الاصطناعي ينجح في تقليد الأسلوب الأدبي
كشفت دراسة حديثة أُجريت في جامعة ستوني بروك بالتعاون مع كلية القانون بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة أنّ نماذج الذكاء الاصطناعي يمكنها تقليد أسلوب الكتابة الأدبية لكُتّاب عالميين اعتمادًا على تدريب محدود لا يتجاوز كتابين فقط من مؤلفاتهم، وبجودة تفوقت – في بعض الحالات – على محاولات كتّاب محترفين في التقليد.
ووفقًا للدراسة، فقد طُلب من ثلاثة أنظمة ذكاء اصطناعي كبرى، وهي GPT-4o و Claude 3.5 Sonnet و Gemini 1.5 Pro – إنتاج نصوص تُحاكي أسلوب خمسين مؤلفًا معروفًا، منهم الحائز على جائزة نوبل “هان كانغ”، والفائز بجائزة بوكر “سلمان رشدي”، وأدباء آخرين مثل هاروكي موراكامي وغابرييل غارسيا ماركيز. كما شارك كتّاب محترفون في كتابة نصوص مشابهة بهدف المقارنة.
وشارك في التقييم 159 قارئًا، منهم 28 خبيرًا في الكتابة و 131 من الجمهور العام، وجرى اختبار النصوص بآلية “عمياء” حتى لا يعرف المقيّمون إن كانت النصوص من كتابة إنسان أم ذكاء اصطناعي.
وأظهرت النتائج أنّ النصوص التي ولّدت بعد عملية “تخصيص النموذج Fine-tuning” كانت أكثر إقناعًا من تلك التي وُلّدت عبر التوجيه النصي العادي (In-context prompting). وقد فضّل الخبراء النصوص المُنتجة بالذكاء الاصطناعي بمعدل أكثر ثماني مرات على النصوص البشرية من ناحية الأسلوب، ومرتين أكثر من ناحية جودة الكتابة.
وتبيّن أن أنظمة كشف الذكاء الاصطناعي التقليدية أخفقت في اكتشاف النصوص المتقنة بعد التخصيص، إذ لم تُصنّف سوى 3% منها على أنها مولّدة آليًا، مقابل 97% من النصوص العادية.
ومن المثير أنّ حجم البيانات التدريبية لم يؤثر في النتيجة، إذ تمكن الذكاء الاصطناعي من محاكاة كتّاب محدودي الإنتاج، مثل “توني تولاثيموت”، بالدقة نفسها التي قلّد بها مؤلفين غزيري الإنتاج مثل هاروكي موراكامي.
وخلصت الدراسة إلى أن “التخصيص الدقيق” للنماذج قد يجعل الذكاء الاصطناعي منافسًا حقيقيًا للكتّاب في الأسلوب والإبداع، مما يُحتّم إعادة النظر في الأطر القانونية والأدبية المنظمة لاستخدام هذه التقنيات.
الملكية الفكرية والأصالة الأدبية في عصر الذكاء الاصطناعي
مع صعود الذكاء الاصطناعي القادر على محاكاة الأساليب الأدبية بدقة مذهلة، تعود إلى السطح أسئلة فلسفية قديمة في ثوب جديد: ما معنى “الأصالة” حين يصبح بإمكان خوارزمية أن تكتب كما لو كانت كاتبًا بشريًا؟ وهل يبقى الإبداع فعلًا إنسانيًا خالصًا، أم يتحوّل إلى نتاج مشترك بين الإنسان والآلة؟
كان الإبداع يُنظر إليه بوصفه امتدادًا لوعي الفرد وتجربته الذاتية، تجسيدًا لخصوصية فكرية وشعورية لا يمكن استنساخها، لكن الذكاء الاصطناعي، عبر قدرته على تحليل الأنماط اللغوية والتكرارات الأسلوبية، يُقوّض هذه الرؤية، إذ ينتج نصوصًا “تشبه” الإبداع الإنساني دون أن تمر بالتجربة التي تمنحه معناه. فهل يمكن اعتبار نص من إنتاج خوارزمية “إبداعًا” إذا كان يفتقر إلى قصدٍ أو تجربة شعورية؟
ومن زاوية أخرى، تطرح هذه التحولات سؤالًا قانونيًا وأخلاقيًا عميقًا: من يملك النص الجديد؟ هل هو من درّب النموذج؟ أم صاحب البيانات الأصلية التي تغذّى عليها؟ أم الشركة التي صممت الخوارزمية؟ هنا تتقاطع مفاهيم الملكية والنية والمصدر في شبكة معقّدة تتحدى التصورات التقليدية عن المؤلف والحقوق.
وأما الأصالة الأدبية، فتبدو اليوم مهددة بإعادة تعريفها. فحين يتمكن الذكاء الاصطناعي من كتابة نصوص تتجاوز حدود التقليد إلى الإقناع الجمالي، يصبح التمييز بين “الاقتباس” و”الاستنساخ” غامضًا. وربما تقودنا هذه الثورة التقنية إلى إعادة التفكير في الإبداع لا كملكية خاصة، بل كظاهرة معرفية تشكّلها الخوارزميات والوعي الإنساني معًا، في علاقة جديدة بين البشر والآلة.
“محفوظ” آخر يُبعث من جديد
قد يتمكن الذكاء الاصطناعي من محاكاة الإيقاع اللغوي لمحفوظ، وتكوين جمله الطويلة المتداخلة، وحتى رسم شخوصه التي تتأرجح بين القدر والحرية. لكنه سيظل عاجزًا عن إدراك ما كان محفوظ يشعر به وهو يسير في أزقة القاهرة القديمة، أو يصغي إلى نبضها الشعبي وهو يخطّ رواياته.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه التكنولوجيا تفتح أفقًا جديدًا للتأمل. ربما لن يكون الهدف “إحياء محفوظ” بقدر ما هو اكتشاف محفوظ جديد يولد من التفاعل بين الإنسان والآلة. فقد يكتب الذكاء الاصطناعي قصة بلغة محفوظ، لكن بأفكار تنتمي إلى زمننا الرقمي، ليُظهر كيف يمكن للتراث الأدبي أن يستمر بالتشكل والتجدد، لا بالتقليد وحده.
وفي النهاية، سيظل السؤال مفتوحًا: هل ما سوف نقرأه في تلك النصوص امتداد لنجيب محفوظ، أم مرآة رقمية له؟ وربما يكمن جمال هذه التجربة في هذا الغموض ذاته، وفي المسافة الدقيقة بين “الإحياء” و”الاستنساخ”.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
المصدر: البوابة العربية للأخبار التقنية
أخبار متعلقة :