في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها سوريَة على صعيد إعادة الإعمار الاقتصادي والخدمي، يبرز التحول الرقمي كأحد أكثر المسارات الواعدة للنهوض السريع وتحسين جودة حياة المواطنين، واستعادة الثقة الإقليمية والدولية.
وقد شهد شهر أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم في سوريَة نقطة تحوّل في هذا المسار، إذ قدمت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات حزمة من المبادرات وأجرت مجموعة من اللقاءات الإستراتيجية، التي لا تهدف فقط إلى تحديث البنية التحتية، بل تضع حجر الأساس لإستراتيجية متكاملة تتجاوز حدود الجغرافيا، لترسم مسار الوزارة نحو استعادة المكانة الإقليمية والدولية لسوريَة.
ويشير مجمل العمل إلى توجه حكومي واعٍ بأهمية التكنولوجيا كقاطرة للتنمية، عبر التركيز على ثلاثة محاور رئيسية، وهي: الاستثمار، والبنية التحتية، وتمكين الخدمات.
الأركان الثلاثة للتحول الرقمي في سوريَة:
تتحرك الوزارة، بقيادة معالي الوزير عبد السلام هيكل، ضمن رؤية متكاملة ترتكز على أربعة محاور رئيسية، تشمل: تعزيز الربط الدولي، وتوسيع الخدمات الحكومية الإلكترونية، وبناء الشراكات الدولية، إلى جانب تطوير البنى التحتية والكوادر الوطنية بما يواكب التحولات التقنية العالمية.
1- تعزيز الربط الدولي.. كابل بحري جديد يربط سوريَة بالعالم:
ضمن توجهها لتعزيز البنية التحتية الرقمية، وقّعت وزارة الاتصالات السورية خلال شهر أكتوبر، اتفاقية لإنزال كابل بحري جديد في مدينة طرطوس، وذلك بهدف تعزيز السعات الدولية، كما ستؤدي إلى خفض زمن الاستجابة وتحسين سرعات الإنترنت بنحو كبير.
كما أجرت الشركة السورية للاتصالات مباحثات فنية مع شركتي (Turkcell)، و(PCCW)، لبحث آفاق توسيع الربط الضوئي وزيادة السعات الدولية، في خطوة تهدف إلى إدماج الشبكات السورية في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة وضمان جودة الخدمة للمستخدم المحلي.
2- إحياء البيئة الاستثمارية.. بوابة لعودة الشركاء الدوليين:
لقد شكّل المنتدى الاستثماري السوري الفرنسي الذي عُقد في دمشق، نقطة انطلاق جديدة للتعاون بين القطاعين العام والخاص، إذ عرض معالي عبد السلام هيكل، وزير الاتصالات وتقانة المعلومات، رؤية متكاملة لتحديث قطاع الاتصالات بالاستفادة من الخبرات الفرنسية، وإعادة بناء الثقة مع المستثمرين الدوليين.
وتركّزت النقاشات على أهمية وضع إطار تشريعي مرن وتقديم تسهيلات استثمارية تسهم في تحويل التفاهمات إلى مشاريع تنفيذية فعلية، بما يصنع مناخًا أكثر جذبًا لرؤوس الأموال والخبرات العالمية.
3- توسيع نطاق الخدمات الحكومية والبرامج التدريبية:
لم تقتصر إستراتيجية الوزارة على البنية التحتية والبيئة الاستثمارية فحسب، بل امتدت لتشمل تمكين المواطن والمؤسسات من خلال حزمة واسعة من الخدمات الرقمية وبناء القدرات، ويُعدّ هذا المحور هو الرئيسي للمسار المحلي للتحول الرقمي، وقد شمل:
-
رقمنة البلديات.. حوكمة محلية لخدمة بيئية أفضل:
يمثّل التعاون بين وزارتي الاتصالات وتقانة المعلومات والإدارة المحلية والبيئة نموذجًا لتكامل الجهود الحكومية، إذ يهدف إلى إحداث نقلة نوعية في الخدمة المحلية عبر رقمنة الإجراءات الإدارية للبلديات.
فقد أكد الوزير هيكل، خلال الاجتماع الذي جرى خلال شهر أكتوبر، أهمية إطلاق منصة إلكترونية للبلديات، تُعنى برقمنة الإجراءات الإدارية وتعزيز العمل البيئي، بما يسهم في تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين وإتاحة بيانات تساعد في اتخاذ قرارات مستنيرة.
كما شدد المجتمعون على ضرورة معالجة التحديات المرتبطة بالعقوبات المفروضة على قطاع تكنولوجيا المعلومات وتأثيرها في وتيرة التحول الرقمي.
-
حوكمة الاتصالات اللاسلكية.. استدامة للاستجابة الوطنية:
يُظهر الاهتمام بالهيئة العامة لخدمات الاتصالات اللاسلكية تركيزًا على مرونة البنية التحتية واستدامتها في الظروف الحرجة، فقد ركزت زيارة الوزير هيكل للهيئة خلال شهر أكتوبر، على تأمين منظومات اتصالات لاسلكية مستدامة تعمل على مدار الساعة لوزارتي الدفاع والطوارئ والكوارث، مما يضمن استمرارية العمل الحكومي ويعزز الاستجابة الوطنية الفعالة والسريعة خلال الأزمات والكوارث، وهو ركيزة أساسية للأمن والاستقرار التقني.
-
بناء القدرات الوطنية.. الاستثمار في الكفاءات السورية:
يُعدّ بناء الكفاءات البشرية، هو الضمان الحقيقي لاستدامة أي تحول تقني، وتؤكد الأنشطة التدريبية والعلمية إستراتيجية الوزارة في هذا الصدد، فقد شهدت الهيئة العامة للاستشعار عن بُعد، أنشطة علمية وتدريبية متعددة، منها مناقشة أطروحة دكتوراه في مجال الاستشعار عن بُعد، والمشاركة في ورشة عمل بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (FAO) ووزارة الطوارئ بشأن التخفيف من آثار الجفاف، ويربط هذا التركيز التكنولوجيا مباشرة بمعالجة التحديات الوطنية الكبرى.
كما جرى تنظيم دورات تدريبية للعاملين في الدوائر الإعلامية التابعة للوزارة لتحسين جودة التغطية الإعلامية ونقل الرسائل الرسمية بوضوح وفاعلية، مما يعكس وعيًا بأهمية (سرد القصة) بطريقة احترافية لدعم التحول.
-
تطوير قطاع البريد.. نحو مراكز خدمات متكاملة:
لم يغفل التوجه الجديد تطوير الخدمات التقليدية، فقد واصل البريد السوري جهوده في توسيع نقاط الخدمة لتسهيل صرف المعاشات والرواتب وتقديم الخدمات المالية، إذ افتتح وزير الاتصالات مركز بريد دوما، ووقعت المؤسسة مذكرة تفاهم مع الهيئة العامة للضرائب لتمكين المواطنين من سداد الضرائب عبر المراكز البريدية.
وتعمل المؤسسة على تبني أفضل الممارسات الدولية من خلال برامج تدريبية خارجية، في مسعى إلى تحويل مكاتب البريد إلى مراكز خدمات رقمية متكاملة، وبذلك يخطو البريد السوري خطوة مهمة نحو تحويل مكاتبه إلى مراكز خدمات حكومية متكاملة تخدم المواطنين بنحو أوسع.
تحديات التحول الرقمي في سوريَة وفرص المستقبل:
تعكس الخطوات المنجزة خلال شهر أكتوبر المنصرم توجهًا واضحًا نحو التحول من مرحلة إعادة الإعمار إلى مرحلة التمكين الرقمي، ومع ذلك، يظل التحدي الأهم متمثلًا في تأمين الموارد البشرية والمالية، لضمان استدامة المشاريع الكبرى، بالإضافة إلى ضرورة وجود دور تشريعي داعم من مجلس الشعب لتحويل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم إلى مشاريع تنفيذية ملموسة.
وإذا ما استمرت هذه الجهود بوتيرتها الحالية، فقد تشكّل السنوات القليلة المقبلة نقطة تحول حقيقية تعيد لسوريَة موقعها كفاعل رقمي إقليمي قادر على مواكبة التطورات العالمية.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
المصدر: البوابة العربية للأخبار التقنية




